"العنف..لماذا يحدث وما علاقة الوقائع المُعاشة"



بلال الذنيبات

نشرت في صحيفة الرأي 2-12-2024م

 تشكل السلوكيات العنيفة، ردات فعل بشرية طبيعية، في مواجهة المخاطر الحقيقية والمتوهمة، ولكن في زماننا الحالي، تصاعد الإهتمام بالعنف كسلوك منبوذ، وتعمل الدول القومية على مواجهته، عبر التشريعات وأجهزتها المختلفة، سيما الشرطة والإعلام والتعليم، إلى جانب فرض منظومة القيم المضادة للعنف في البيوت كنواة لأي تغيير سلوكي بشري، عبر مر الأزمنة.

وتزامنًا مع الاحتفال السنوي بنحو 16 يوم لمناهضة العنف ضد المرأة، والذي رغم التطور الثقافي الذي يشهده المجتمع الأردني، لا زال العنف يمارس ضدها، وبمختلف الأشكال، سواء التقليدي كالإهانة والعنف الجسدي والجنسي، والتحرش والاستحواذ على مواردها المالية بالإكراه، وهي سلوكيات تنتشر في بعض البيئات على حساب أخرى، ولكن هنالك عنفا جمعيا يمارس ضدها.

والعنف الجمعي، هو سلوك مجتمعي عام، يمارس ضد شخص بغض النظر عن جنسه وأصله، ويكون هذا السلوك عبارة عن تقييمات مجحفة، ينتج عنه تحميل المستهدف مسؤولية ما يتعرض له، وربما إقحامه فيما لا يعنيه، مثلاً عندما نسمع عن مشاجرة بين طلاب في جامعة، يأتي البعض ليقول أن المشاجرة بسبب فتاة، وهذا عنف مزدوج، إذ يُحمل الفتاة مسؤولية سوء تربية الشّباب، كما ويعطي حكمًا مسبقًا عن طلبة الجامعات، وأنهم فارغون تقتصر مشاكلهم على الفتيات أو المخدرات.

العنف، وهو سلوك منبوذ، لكنه ناجم عن مشاعر نفسية بالدرجة الأولى، فربما يفرغ الشاب مثلاً، كبته الناجم عن الظلم والسطوة التي يعيشها نتيجة سلوكيات السلطة-الأب والأسرة، المدرسين في الجامعة- مثلا، وهم أو حقيقة الواسطة والمحسوبية، غياب التقدير للذات، غياب برامج إملاء وقت الفراغ، غياب العدالة، وغيرها عبر المشاركة في المشاجرات الجامعية، أو تفريغ الغضب المتراكم بالعناصر الأضعف، كالمرأة والأطفال وذوي الإعاقة مثلاً.

تعد السلوكيات العنيفة محصورة في سبب بعينه، فالأخصائي الاجتماعي عندما تعرض عليه قضية شجار ما، لا يفكر فقط باللحظة التي حدث فيها الفعل، وإنما يبدأ بالتفكير في تلك الجذور، والغامضة في شخصية ممارس العنف، مثلا قصته الشخصية، وروايته للأمر، وما بين سطور تلك الرواية، فمثلاً يُقال أن العنف الجامعي يتعزز في أوساط الفقراء!، ولكن في المقابل نرى حقيقة مجتمعية، أن المعاناة تولد العظام في كافة المجالات، وأن أولئك المترفين أقل صبرا وتحملاً للمشاق والمتاعب، هذا يعني أن فكرة تحميل الفقر دوما المشاكل في الجامعات والشارع يعد عنفا جمعيا، وتقييمًا غير منصف وغير عقلاني.

إن تساؤلات مثل العرق، ونمط التربية، والخلفية العقائدية-الدينية، إلى جانب الأوضاع الاقتصادية الخاصة بالفاعل، والاهتمامات الشخصية، والمشاعر العاطفية تجاه الأحداث والوقائع السياسية، والعلاقات مع المحيط في بيئة العنف أو غيرها، والكثير من المعلومات هي ذات قيمة لدى الأخصائي، في محاولته فهم بواعث العنف، ووضع خطة معالجة للفاعل.

ومؤخرًا عادة ظاهرة العنف الجامعي والعائلي، لواجهة النقاش مجددًا، ورغم أن الظاهرتين لم يختفيا بالمرة، ولكن التغطية الإعلامية تراجعت عن السابق، ما منح شعورا بتراجع الظاهرتين، بيد أن الشباب يمارسون العنف، أو سلوكيات قد تفسر على أنها محاولة لكبح مشاعر التوجه للعنف، نتيجة تزايد الضبط الرسمي للعنف الجامعي، وانشغال الميديا بمصادر قلق جديدة، نتيجة ظروف كورونا وظروف العدوان على غزة وتداعياتهما، والموقف من الإبلاغ عن العنف الأسري.

إلى جانب ذالك، الجفاف العاطفي بين الناس، وعدم جرأة الأردني في بث مشاعر الحب، بنفس الوتيرة التي يبث فيها الشكوى، تذكي برودا قاتلا للعلاقات الأسرية في البيوت، تعزز من التفكك الأسري وتعظم من سلوكيات العنف.

ولا يمكن إغفال ضعف تأثير الإعلام، في التعامل مع المشاعر النفسية المتضامنة مع غزة، والتي تولد حنقا ما-ربما، يفسر بسلوكيات العنف المختلفة، إلى جانب حالة اللايقين، والأردنيين عمومًا، عاشوا مراحل من اللايقين متلاحقة، تعاظمت ما بعد سقوط بغداد العام 2003م، وما تلا ذالك.

ولعب الإعلام الجديد، ممثلاً بمواقع التواصل الاجتماعي، في زيادة الميل نحو العنف، مع تعاظم التباغض والحسد بين الناس، وتأثيرات العين، إلى جانب تدفق الأخبار والمعلومات غير المفلترة، والتي لا تبعث على الطمأنينة، وتزيد من المخاوف من المستقبل، مع إعلام مؤسسي غير جريء ولا يواكب هذا التدفق.

والأكثر أهمية هنا، غياب وهشاشة التربية الدينية، والإيمان بالله- أو الإله-،  والقدر والقضاء، والمشيئة، وهي مشاعر إن عززت تمثل أحد حوائط الصد في مواجهة المخاوف المتصاعدة، وتعظم الثقة والأمل، في الضد من عوامل التحبيط والتثبيط، تلك الموجهة منها، أو الحقيقية التي يعيشها الإنسان في محيطه البيئي.

تمثل السلوكيات العنيفة، ميدانا رحبا للدراسة والتحليل، ولا يمكن لأي كاتب حاذق، أن يحيط بالمسببات، فلكل حالة أحكامها وقوانينها وبواعثها، ولكن بالتأكيد لا يمكن ولا يجوز علميا، حصر السلوك العنيف بالفقراء ولا الشباب الجامعي أو غيرهم، رغم أن العلم والمعرفة، ربما تزيد العنف نتيجة تزايد الضغوط العقلية والبيئية، وربما الفقر والجوع مورد المشاكل، ولكن الجهل والغنى كذالك يقودان في بعض الأحيان للعنف.

تعليقات