القائمة الرئيسية

الصفحات

شيفرة صمود غزة


 

كتب بلال الذنيبات-المحرر المسؤول عن مدونة الذنيبات نيوز

"محددات تاريخية لطوفان الأقصى"

شكل السابع من اكتوبر الماضي، إنعطافةً تاريخية مُهمة، في تاريخ  الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، عندما شرعت عناصر من المقاومة الفلسطينية، بإقتحام مستوطنات غلاف غزة، وتحصيل معلومات استخبارية نوعية، في وحدات عسكرية حساسة، إلى جانب أسر عدد من الإسرائيليين، فيما أطلق عليه اسم "طوفان الأقصى".

لتبدأ إسرائيل، وبعد ساعات من تلقي الصدمة، ورغم علمها المسبق، بنية المقاومة القيام بعمل ما، عدوانًا هو الأطول والأكثر شراسة، على قطاع غزة، كرد فعل قاسٍ على ما قام به الفلسطينيين، في مستوطنات الغلاف، ومع مرور 11 اسبوعًا على الحرب، لا زالت المعارك الضارية تشتد آوارها، فيما التدمير والقصف  والإبادة الجماعية مستمرة.

وتأتي العملية، نتيجة تزايد الغطرسة الإسرائيلية، والإعتداءات المتكررة على المقدسات الإسلامية، والتي أخذت فيها إسرائيل شوطًا بعيدًا، خصوصًا مع تنامي الميول اليمينية في المجتمع الإسرائيلي، قبل السابع من اكتوبر، والحوادث التي شهدتها جنين قبل أشهر من ذلك شاهدة عيان، فيما تُعرف حكومة نتنياهو، أنها حكومة أزمات، فبمجرد عودة الرجل على رأس السلطة، توقن أن هناتصعيدًا في الأفق. 

 "محددات الشخصية الفلسطنية"

ويتسأل المرء، عن سبب بسالة المقاومة الفلسطينية، وثبات الغزيين، كما يتساءل آخرون، عن تلك الأم التي فقدت فلذات كبدها، تحت الردم، وخرجت صُلبةً تحتسبهم شُهداء فداءً للقدس، وذلك الذي خسر طفلته بعد سنوات من الحرمان، فحتسبها عند الله فداء للقدس وفلسطين.

كما وحفز هذا الصمود الإسطوري، والذي يزلزل الجبال الراسية، رغم الجوع والبرد والمرض، والحبس والقتل الوحشي، الكثيرين في الغرب، نحو التعرف على شيفرة الصمود الفلسطينية، في قطاع غزة، والتي لم تفلح "خنازير الأرض"، في تفكيكها وتدميرها، والنيل من قياداتها وتعلقها بخيار المقاومة.

لكن الأمر يُصبح أكثر بساطةً، عندما نستقرء الحالة الاجتماعية في القطاع، والذي هو بمثابة ترجمة لموروث عقائدي وديني صلب، متعمق وثابت كثبات الزيتون والجبل على أرض غزة، والتي دحرت العدو في الكثير من المناسبات.

فكان الكنعانيون يصدون الغزاة، الذين استهوتهم غزة، لموقعها الجغرافي الإستراتيجي، ووظفوا طبيعة المكان، المتاخم للبحر المتوسط، والذي يتضمن تضاريس متباينة، في خدمة المجهود العسكري المدافع عن القطاع، فيما كانت العديد من الحضارات قد مرت من غزة، ومنها من ترك أثرًا لا زال حتى اليوم.

وفي غزة، توجد ثالث أقدم الكنائس، على مستوى العالم، كنيسة القديس برفيريوس، كما توجد المساجد الشهيرة، منها المسجد العمري، والذي هدمه أخيرًا الاحتلال الإسرائيلي عقب عملية طوفان الأقصى، والذي يعود تاريخه لحقبة الوثنيين قبل أن يتحول إلى كنيسة في العهد الروماني لاحقًا فمسجد. 

"غناء قيمي في غزة"

ويملك الغزيين الحاليين، موروثًا ثقافيًا غنيًا بالقيم الإنسانية، إذ بالإضافة لسكانها، دفعت نكبة 1948م، ونكسة 1967، المزيد من الناس، نحو اللجوء إليها، فهي تتكون من الغزيين والفلسطينيين ما نسوا يومًا مفتاح الدار في الأراضي المحتلة من فلسطين، عقب الإنتداب البريطاني السافر، والذي زرع إسرائيل في المنطقة، وأمدها بالمال والسلاح، حتى قويت وباتت دولة قائمة بالاحتلال.

ورغم إنتهاء الكثير من الاحتلالات، لكن إسرائيل، والتي تدعمها جماعات ضغط في عواصم صنع القرار، وعلى رأسها واشنطن، لا زالت قائمة بالاحتلال، وهذا ما عزز الشعور الفلسطيني، بأنهم وحدهم هم الذين يواجهون مصير الإستغناء عن الحقوق والأرض، أو خوض خيار المقاومة دفعًا للاحتلال، واستكمالاً لتاريخ المنطقة في دحر الاحتلالات، والتي منها الاحتلال الصليبي، والذي دام عقود، ثم التتار والمغول، والذين ذاقوا ما ذاقو من غزة نفسها.

والشخصية الفلسطينية، على وجه الخصوص، تمتاز بالإيمان القوي بالحق، والإنتصار له، والدفاع عن قيم الكرامة والإنسانية والعدالة، فقد سطرت المقاومة الفلسطينية، أبرع آيات القيم الحميدة، فرغم المظلمة التاريخية، والتي وقعت على الشعب الفلسطيني، منذ   العام 1948، لكن المقاومة الفلسطينية، وبشهادة الأسرى المفرج عنهم من قبلها، في الهدنة الأخيرة، كانت تعاملهم بقيم إنسانية عالية.

وفي حين قال الأسرى، أنهم خشيوا على حياتهم من القصف الإسرائيلي، والذي أدى إلى قتل عدد منهم بالفعل، قالت صحيفة عبرية، أن مؤشرات تقول أن الغزيين قتلوا في الشجاعية، ورغم تعرضهم لهجوم إسرائيلي، لم يبادروا لقتل الأسرى الذين كانوا بحوزتهم، ما يُعد جزءًا من العقيدة الإيمانية القوية، لديهم بإنسانيتهم، والتي قلما تجد لها مثيلاً في العالم سواء عبر التاريخ أو اليوم، سوى لدى المسلمين.

واستكمالاً للتحليل الاجتماعي لمحددات الشخصية الفلسطينية، فأشير إلى أن، الفلسطينيين، كانوا وعلى مر التاريخ، وحتى اليوم، من أصلب الشعوب في بناء الحضارات، وتطوير الحياة، فالكثير من بناة عالمنا العربي اليوم، هم من أصول فلسطينية، علمتهم الخبرة والتجربة، عدم الإستسلام، والثقة بالتوفيق والنصر، ومواجهة التحديات، والعمل على خرقها، لتحقيق أهدافهم في البناء والتحرر واستكمال نيل حقوقهم كبشر، تنكر العالم لهم، فيما عملت القوى الإستعمارية على إذلالهم، وتركيعهم، وتجريدهم من أبسط حقوقهم، المتمثلة بالوطن والأرض، لخدمة مصالحها، واستكمالاً لتاريخ من الصراع بيّن الشرق والغرب.

 لقد دأب الغزيين، ومنذ وقوع المظلمة، في العام 1948م، وما تلاها، على مقارعة الاحتلال، ونجحت غزة ذاتها العام 2005م، بنيل حريتها، لتكون شعلة تحرك الحق السليب للفلسطينيين، وتمنى بعض الساسة الإسرائيليين أن تبتلعها ماء البحر، ذاك لصلابة نساءها ورجالها، والتي اليوم تسطر أعظم آيات الصلابة، في نظر العالم.

ورغم أن غزة، محاصرة، ومراقبة على مدار الساعة، إلا أن غزة، وعندما وعي الفلسطينيين، لأهمية معركة العقول، في الحرب مع الاحتلال، خطت خطوات لا يمكن إغفالها، في مجال تطوير الفكر وبناء العقيدة، وتعزيز صلابة الناشئة، حتى باتت الناس أكثر ثقة بقدرتها على النصر، ورغم ظروف الحرب القاسية، إلا أن الغزيين لا زالوا يتمسكون بعروة الأرض، غير آبهين بمن نصرهم أو خذلهم، متوكلين على الله في خيارهم الشجاع، في العمل على التحرر، كما هي عبر التاريخ.

ومن محركات المجتمع الفلسطيني، في غزة، هو أن معظم الناس، عاشوا تجربة النزوح، أو سمعوا بها على الأقل، وكانت الأم الفلسطينية، الشجاعة والمعطاءة، تبذل قصارى جهدها، لتربية أبنائها على الرجولة والبطولة، وعدم الإنكسار أمام الأزمات، وبناء شخصية قوية، تكون على قدر المسؤولية في مواجهة المحتل والظالم.

"وهم الاستسلام والتسليم..وشخصنة غزة بالسنوار"

ورغم كل ما يقال عن التطور العلمي، والذي شهدته إسرائيل، وحلفائها، لكنها لا زالت تمارس نفس العقلية، في مواجهة الغزيين، فمع اشتداد المعارك، وتكبد الجيش أعدادًا من القتلى، نتيجة شجاعة المقاتل الفلسطيني، وبسالته الإسطورية، لا زال يعتقد السيد بيبي، وحكومته، اليمينية المتطرفة، أن الحل يمكن في القضاء على يحيى السنوار!، أو قيادات حركة حماس!، أو المزيد من القتل، أو تفكيك الأنفاق، أو رشوة الفلسطينيين!، أو حتى أمنية الاستسلام، والإعتقاد أن هذا المقاتل، والذيي مارس عمله من دون الرجوع لمرجعيته القيادية أحيانًا، يعمل من أجل إرضاء السنوار.

السيناريو الأول، هو إنهاء المقاومة الفلسطينية، بإنهاء يحيى السنوار، وقيادات حركة حماس، وهذا مدعاة للسخرية بالفعل، فهل نجحت الولايات المتحدة فيحربها على فيتنام بذلك!، وهل سجل التاريخ يومًا، أن القضية الفلسطينية ذاتها، فقدت زخم مقاومتها منذ العام 1948 وما قبل وما بعد؟، الإجابة التاريخية، فالمجتمع الذي يشعر ابناء بالظلم والجور، سيولد قادة وأناس يعملون على الكفاح المسلح ضد الظلم، ولا يمكن ربط هذه السنة بشخصية فرد.

ألم تقم إسرائيل ذاتها بشن حملات الإغتيال على مدى عقود، هل نجحت في إنهاء المقاومة والكفاح المسلم؟، لا بالطبع، بدلالة وجود جيوب مقاومة في الضفة الغربية، والتي تنشط على فترات، رغم الظروف المختلفة عن غزة، والمتمثلة بالاحتلال، والمغريات المادية والمعنوية التي تقدمها إسرائيل للبعض، وهذه طبيعة بشرية، تتواجد في كل زمن وكان.

وعلى مدار عقود، ارتكبت إسرائيل ذاتها، مجازر دموية، راح ضيحتها الكثير من البشر، وبقيت روح المقاومة متقدة، وتلقى تعاطفًا ودعمًا بمختلف الصتوف، وحتى أن الشّباب اليوم، والذي قيل عنه أنه منسلخ عن وطنيته وأرضه، أثبت قدرة على تغيير المعدلات على المستوى المحلي والدولي، فبفضل الشباب فقدت تل أبيب هيمنتها على الرواية الإعلامية، وفقدت الجدوى من أعمالها الرامية لكسب التعاطف.

ورغم أن القوى العالمية، حاولت إلصاق الإرهاب بالتنظيمات الإسلامية، عبر خلق تنظيمات مثل داعش والقاعدة، كانت تدار من قبلها، وتقدم نفسها على أنها "إسلامية"، بيد أنها على أرض الواقع كانت غير ذلك بتاتًا، لكنها فشلت في جعل المقاومة الفلسطينية، بذات الخانة.

ذاك أن المقاومة الفلسطينية، مثلت الدين الإسلامي القويم، واستندت لقاعدة شعبية صلبة، وأهداف وبوصلة واضحة، هي التخلص من بقايا الإستعمار القديم، ممثلاً بإسرائيل.

ثم أن العرب بمختلف دياناتهم، ينظرون للمقاومة الفلسطينية، كحركة وطنية تملك قوة الحق، في مواجهة الظلم والجور، المتمثل بسلب الأرض والهوية من الفلسطينيين، والتي لم تفهم حقهم، أي مبادرات سياسية خلال العقود السابقة، بقيت ملفات اللاجئين والعودة والتعويض والاحتلال،  كما الإعتداء على المقدسات في القدسالشريف، عالقة دون حل، وهمشت لصالح قضايا مختلقة منذ ما بعد العام 1973 وحتى يومنا هذا. 

أما تفكيك الأنفاق، والرشاوي والجواسيس، فهي ليست حلاً، فالإنسان الفلسطيني، لم تثمر فيه هذه الوسائل، والتي لم تنقطع خلال العقود الماضية، خصوصًا لدى الغزيين، إذ يؤمنون كبارًا وصغارًا بقدرتهم على النصر، وأن الله معهم، وسينصرهم، فيما قال أحد رؤساء حكومات إسرائيل، وكانت حكومته اليسارية أقل عدوانية تجاه الفلسطينيين، أن العقيد القتالية لدى الفلسطينيين، عصية على كل أفانين السيطرؤة عبر الجواسيس والعملاء، فهم مؤمنون بقضيتهم، ومستعدون للتضحية من أجلها، حتى بدون وجود مرجعية قيادية توجههم.

وهذه العقيدة القتالية، لا ترتبط بشخص، فالمقاتل الفلسطيني، لا يقاتل من أجل السنوار، كما توهم السيد بيبي، ولا يمكن لهذا الفلسطيني التوقف ولو لحظة ليشهر الراية البيضاء، فما من شيء عنده يعادل ما يؤمن به من حق، ولم تفلح جهود التغريب الثقافي بإنتزاع الفلسطيني من فلسطين سيكولوجيًا وثقافيًا.

وأما الحل، فهو يتمثل بالرؤية الأردنية، إلى جانب المحادثات الجادة، وعلى أساس عادل، على مبدأ حل الدولتين، ففلسطين-منزوعة السلاح، لن تكون مجدية بدليل الضفة الغربية-المنزوعة السلاح صوريًا-، وفلسطين مقسمة لن تكون، فيما إسرائيل عليها تقديم التنازلات من أجل "سلام" حقيقي، يضمن التنمية للجميع، لا فرض السلام على غرار الإبراهميات التي فشلت اليوم، وعجزت عن وقف المشاكل بالنسبة للإسرائيليين.



تعليقات