القائمة الرئيسية

الصفحات

"مبادئ الزواج في النموذج الغزاوي"

 


كتب بلال الذنيبات

صحيفة الرأي 25-3-2024م

تشكل الحروب تاريخيًا نوعًا من مصادر تشكيل الثقافات في المجتمعات البشرية، وما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة، منذ عهد الإنتداب البريطاني، وما تلاه المتمثل بالإحتلال الإسرائيلي، إلا جُزءًا من هذه الحروب، ورغم كونها ليست الأطول في التاريخ، بيد أنها الأعمق تأثيرًا في الشخصية الفلسطينية تحديدًا.

والمراقب لحرب غزة اليوم، يقفُ منشدهًا أمام كم التضحيات التي يقدمها الفلسطينيون، ولكن اللافت أكثر هو ردود فعل الناس، والذين يصرون عمليًا على التشبث بمعاني الحياة، وإدامتها وتكليلها بالصمود والمصابرة على الجراح، عبر إقامة فعاليات الاحتفاء والفرح، بعديد المناسبات المرافقة للناس.

وما عُرسي "غزة"، سوى دليلاً على أن النموذج الغزاوي بالفرح، في زمن الحرب، مؤشر صمود وإباء وثقة بالبقاء والإستمرار في الأرض، رغم أن التصنيفات العلمية، باتت تشير بوضوح أن غزة، ومع انتهاء الحرب لم تعد صالحة للحياة، الأمر الذي لأهلنا في القطاع كلام أخر مخالف للغة العلم والمناطقة، والذين لا يعرفون الحالة النفسية التي تحكم الشخصية الفلسطينية في العقد السابع من الاحتلال، ولا تعرف بالطبع، مخرجات هذه الحرب، والتي ستبرز شخصية أقوى مما نراها الآن-كما أزعم من منظور علم اجتماع نفسي.

"الزواج"، أهم أدوات الصمود والمواجهة في الحرب الديموجرافية، والتي يخوضها الفلسطينيين في القطاع والضفة-على حد سواء، في مواجهة المحتل، ورغم كونها تشهد حربًا، لم يتخلى الغزاويين عن الزواج، كمُشكل للمجتمع الغزاوي، الآن وغدًا كما يؤمنون، من منظور سوسيو ثقافي صرف هنا.

والزواج، عندما يُبنى كحاجة إنسانية للبقاء والتكاثر، إلى جانب إدامة الحياة، وتوفير المظلة العائلية ذات القدسية الخاصة، في ثقافتنا العربية الإسلامية، يكون غاية بذاته، لا وسيلة، فالغزاوي الذي يتزوج مثلاً، لا يقدم شيئًا سوى أملاً معلقًا بالحياة، هو بأمر الله ولا يمكن التكهن به، فلا بيت زوجية هنالك، ولا مغريات، سوى دافع البقاء والتوالد، والتي هي في صميم الحالة النفسية في المجتمع الفلسطيني، وتفسر لماذا الأسر الفلسطينية ورغم الحداثية الراهنة، تميل أن تكون كبيرة، وهي تتشابه مع الأسرة الفلاحية الزراعية، فالأولى دافعها البقاء والمواجهة والتحدي، والثانية دافعها الإنتاج وتوفير العمالة اليدوية.

أردنيًا، وفي الكثير من مجتمعاتنا العربية-خلا الفلسطينية نتيجة ظروفها الخاصة أعلاه-، وقع "الزواج"، ضحية من ضحايا ثقافة "السوق المفتوح"، والتي عملت على تحويل كل شيء بالحياة إلى مجرد أشياء، تحكمها المادة، فبات الزواج وسيلة للكسب المالي أو المظهري.

والمشكلة أن الناس اليوم، باتوا يعانون من كم القضايا في المحاكم الشرعية، والمتعلقة بالخلافات الزوجية، والتي تدور حول عدم ضبط شروط الأيزو الخاصة بالإختيار، وخصوصًا أن معظم الزيجات في بلدنا، تكون وبالاً على الأسر الوليدة، نتيجة طقوس باتت مسلمة رغم عدم القدرة على الإيفاء بها، فلم تعد القيمة هي المحدد لخيار الزوجين كلاهما للأخر، بل كم النقود وكم المظهر بالدرجة الأولى.

وما جُل مشاكلنا في أسرنا اليوم، سوى غياب البحث عن مبدأ "فظفر بذات الدين والخلق-أساسًا"، حتى باتت أسرنا تنشأ كي يقال أن زوجها فلان دكتور، أو فلانة كذا، أو يعيشون في منطقة راقية-ماديًا، أو عملت الحفلة بصالة 10 نجوم!

والنتيجة هي مشاكل، مشاكل ناجمة عن أزمة الديون التالية للزواج،  وأزمة القيم في الأسرة، والتي بالتالي تزيد الضغط على "القاضي الشرعي"، وفي حين ظهر تيار جديد من العازفين والعازفات عن الزواج، برز أخر من قبيل المطلقات والمطلقين الصغار، وخصوصًا في السنتين الأول من عمر الزواج، وهما نتيجة إفرازات ثقافة السوق المفتوح، والتي تقول بما أشرنا سالفًا إليها.

وفي كل مجتمع، يشكل الزواج، الطريقة المُثلى لتكوين الأسر في ذاك المجتمع، والبناء القيمي في أي أسر، يقف كحائط صد في مواجهة المشاكل الأخلاقية والمسلكية، إلى جانب إنهاك الدولة بنفقات دور الإيواء للمشردين والعواجز، والإنفاق على أجهزة الشرطة والأمن لمواجهة تداعيات التفكك الأسري، من إدمان وجرائم متنوعة، تقل في طبيعة المجتمعات التي تشكل القيمة فيها أساسًا لتشكيل الأسر وبقاءها.

والبناء العقائدي، والمنبثق من الإسلام-نموذجًا، يُعزز من مكانة القيمة والسلوك المجتمعي القويم، ويجذر فكرة الولاء والإنتماء، تنك الفكرتين اللتين تعملان معًا على تشكيل الضمير الجمعي الحي، والذي يشكل هو عينه، اليد اليمنى لأجهزة إنفاذ القانون، ومنع الجرائم في المجتمع.

لقد استغرب الكثير منا، ونحن نتابع المجتمع الغزاوي، وكيف يتعامل مع الحرب، من كم الجلد الذي بدت عليه الشخصية الغزاوية، ولكننا نتريث في حال الدهشة تلك، عندما نستقرئ الحالة المزاجية العامة لدى الناس في غزة، فالبناء العقائدي الذي تم، خلال عقود، سواء من قبل العناية بالتربية العقائدية القائمة على القرأن الكريم أو تجارب الإحتلال الممتد لقرن، وتاريخ غزة نفسه، والإرادة الإلهية، كلها عوامل عززت هذه السلوكات، وبنيت عبر الأسرة بشكلٍ متواصل، و"عززتها الحروب"، التي عايشها الغزاويين بعد إزالة الاحتلال العام 2005م.

وكل هذه العوامل، فعلت فعلها في تصليب الإرادة لدى الناس، وبات الغزاوي أكثر تمسكًا بخيار الزواج، كأداة للصمود والتكاثر، لا أداة لنيل المكاسب المادية والمعنوية-العزيزة الآن في غزة في ظل الحرب، وهذا ما يفسر إصرار الشباب والفتيات في مراكز الإيواء بالزواج.

وعودة لمجتمعاتنا العربية والأردني منه خصوصًا، فقد فشلت المحاولات المقدرة من قبل البعض لبناء الأسر على أساس قيمي، ومهما كانت كلف الزواج عقلانية لتعميم التجارب، في ظل ظروف اقتصادية صعبة نعيشها وسنعيشها في المستقبل-ربما كوننا في محيط لم يهنأ كثيرًا بفسحات رغد اقتصادي منذ عقود، ما ينذر بتطفيش الناس عن الزواج، أو تعظيم الطلب على خدمات المحاكم الشرعية-وللأسف هما في إزدياد.

علينا الإقرار، أنه وللأسف، أن الصورة وثقافة السوق المفتوح، تعمقت حتى باتت صعبة الإستئصال، رغم الأُطر النظرية الثقافية والدينية، إلى جانب المبادرات الرسمية والشعبية والإعلامية، والتي لا تلقى رواجًا يهدد بهرج الغاية من الزواج كسلعة وكمصدر للإثراء السريع أو حتى إرضاء أذواق الناس على حساب البناء القيمي للأسرة.

ختامًا، فإن إحتذاء النموذج الغزاوي، في الزواج، من شأنه المساعدة على خفض النفقات المتعلقة بالقضايا والمحاكم، إلى جانب الأمراض والعلل التي تعتري المجتمع، والتي تثقل كاهل موازنة الشرطة سنويًا، لتوفير منجزي الأمن والأمان الوطنيين الخالصين، في ظل ضعف اليد اليمنى للسلطة-القيمة والعقيدة السليمة، وتعمل على تعميقهما كمنجزات حضارية، بنيت بتضحيات الأرادنة الأجداد، وديعة بيدنا حتى يتسنى لنا تسليمها لأبنائنا وأحفادنا، في ظل قيادتنا الحكيمة.

أنت الان في اول موضوع

تعليقات