"أم قيس..يا أيها المار من هنا"



الرأي-بلال الذنيبات

 يزخر الأردن بثروات طبيعية وتاريخية، تحكي قصة جغرافيا عميقة الجذور في المشهد الإنساني، على مر الزمن، تتوزع على صفحة الوطن من جنوبه إلى شماله، وأبرز تلك الثروات، بلدة أم قيس الأثرية، التابعة للواء بني كنانة في محافظة إربد.

يجدُ الزائر هناك، المدرج ذا الطراز الروماني الآسر، في جنوب وشمال البلدة الأثرية، إلى جانب حوانيت التجار ذات زمن مضى، والطريق المبلط، وسبيل الحوريات، والكنائس والمدافن والحمامات الرومية، وتأخذه البهرة والإندهاش، في الإطلالة على بحيرة طبريا وجبل الشيخ ونهر اليرموك.

وفي مستهل موسم الصيف، والذي تزخر فيه النشاطات الترفيهية والثقافية، والتي تقيمها الجهات المعنية، سيما وزارتي السياحة والآثار، والثقافة، فإن أم قيس تمثل وجهة محفزة لإمتاع النظر بنعم الله على أرض الأردن، هواءًا عليلاً في المساءات  والصباحات، إلى جانب مسار يشد العينين، ويلهم الفكر والإبداع.

 ومن هؤلاء الشاعر الروماني والحكيم، أرابيوس، والذي سطر على شاهدة قبره في المدينة، إطروحة للأجيال: "يا أيها المار من هنا..كما أنت الآن كنت أنا، وكما أنا الآن ستصير أنت..تمتع بالحياة فإنك فانٍ".

هذه الحكمة التي لو وعاها الناس يومًا، لما رأينا البشر يتصارعون على الدنيا، بدلاً من المتعة والبحث عن فضاءات البهجة والفرح، تلك التي تُغدق فيها طبيعة المكان في أم قيس على زوارها، وتعج فيها الأرض الأردنية، تحكي قصة الإنسان الأردني، منذ الأزل، وصولاً إلى جيلنا هذا.

وتكللت قيمة المدينة الأثرية، العام 2022م، بضمها ضمن أفضل القرى السياحية في العالم، وفق تصنيف منظمة السياحة العالمية، اعترافًا بقيمة القرية على الصعيد الإنساني والتاريخي، والتي مر على أرضها البيزنطيين والرومان واليونان، إلى جانب المسلمين لاحقًا.

وعلى أرض أم قيس كان المحب للناس، مينيبوسو فيلوديموس، والفيلسوف يونوماوس، والشاعر ميلياغروس الجداري-والذي حمل اسم القرية القديم-جدارا.

وأما الجداري هذا، فيوجه للأجيال رسالة لا زالت خالدة:"أيها العابر من هنا..لا تخف من مرورك بين أجداث الموتى..فهنا يرقد عجوز مسالم رقدته الأخيرة".

وليس جديدًا هنا، الإشارة إلى أن أم قيس، كانت ضمن تحالف المدن العشر "الديكابولس اليونانية-الرومانية، وكانت مربط لطريق التجارة بين سورية الحالية وفلسطين، على أرضها عبرت حملات عسكرية، ومنها الحملة الفارسية التي عملت بأهلها من رعايا الدولة الرومانية أبشع صنوف المجازر، ثم دخلها الصحابي الجليل، شرحبيل بن حسنة، على رأس جيش المسلمين، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، إبان الدولة الإسلامية الأولى "الراشدين"، فانتزعها من الرومان.

ويصفها البعض أنها "آثينا الشرق"، وقد بدأت عمليات التنقيب فيها مطلع ثلاثينات القرن المنقضي، وهي تمثل اليوم محطة إلهام للعابرين من لواء بني كنانة، والذي ينعم بالبساتين النظرة، والإطلالة الساحرة على جبال الشام، سيما جبل الشيخ في لبنان، والأراضي الفلسطينية المحتلة، الجزء الغربي من ضفتي نهر الأردن-الشريعة، والذي شكل مهوىً للرحالة الأجانب منذ زمن بعيد.

وللأسف، فقد شهدت القرية مُتأخرةً مهرجانها اللائق بتاريخها العميق، فكان أول نسخة من مهرجان البلدة التاريخية، يعود فقط إلى شهر نيسان الماضي (2024)، والذي افتتح معالي وزير السياحة والآثار، نايف الفايز، فعالياته المتنوعة.

كما وتنظم وزارة الثقافة سنويًا، ومنذ العام 2015م أيضًا، مهرجان التنوع الثقافي، والذي يعكس الصورة الثقافية والحضرية للمكان، كما وتنتشر في المكان عربات الباعة، باعة الفول والترمس..وغيرهما من صنوف المأكولات الشعبية والتراثية.

 ذاك المكان الذي على جنباته، تروى قصص العشاق..والمتيمين بالحب والحياة..الشعر والأدب..الفكر والإبداع، قصص الصحب والأسر..الفتية والصبايا..كل ذلك وعلى مر الزمن كان حاضرًا، في سبيل الحوريات وشارع الأعمدة والأخر المبلط، والمدرجات، وكان أصحاب الحوانيت يومًا.

وتلك آية من آيات الله..متعة وعظة..فرحًا وخوفًا..طمأنينة وقلق..استذكارًا وتأملاً..فلا تنسى يا أيها الزائر أن في كل حجرة قصة الإنسان الأول الذي سكن أم قيس حاضرة، وفي كل مسيل ماء..قصة إبداع بشري لم ينقطع منذ بدأت الخليقة.

(6-7-2024)

تعليقات